الفكرالإسلامي

 

 

النظرية التربوية الإسلامية وأسلوبها في تطوير التعليم

 

بقلم:  أ. د/  محمد الدسوقي

 

 

 

 

تدل كلمة تطوير على التغيير والتجديد، وهي بهذا تشير إلى أن الحياة في كل مجالاتها لا تعرف الجمود وأنها في كل يوم تضيف جديدًا لم يكن معروفاً أو مألوفاً من قبل، وإن كنا لا نقف على هذا الجديد إما لدقّته، أو لأنه يمر بمراحل مختلفةٍ حتى يصبح أمراً مادياً محسوساً أو واقعاً ملموساً.

     ويعد التعليم بالنسبة للإنسان ضرورة حياة ووجود وبدونه يفقد أهم خصائصه الإنسانية والحضارية، بل يفقد معنى آدميته، ويكاد يلحق بالكائنات التي لم ترزق نعمة العقل والنظر والتفكير والاعتبار.

     ومادام التعليم له هذه الأهمية الفريدة للإنسان فإنه أولى من غيره بالخضوع للسنن الكونية في التطوير والتجديد، وإلا لم يكن للإنسان قوة دافعة نحو البناء الحضاري والنمو المعرفي، وتأكيد الاستخلاف في الأرض.

الغاية الأولى من التعليم:

     ويجدر قبل الحديث عن ضرورة تطوير التعليم الإشارة على وجه الإجمال إلى الغاية الأولى من التعليم لأن الوقوف على هذه الغاية يحدد السياسة التي يجب الأخذ بها في التطوير فكرًا وأسلوباً.. فضلاً عن أن هذه الغاية تضع العلم في مكانه الصحيح فلا يصبح وسيلة بغي وطغيان وامتهان للضعفاء وسرقة ثروات الشعوب.

     إن تكريم الله للإنسان واستخلافه في الأرض وتفضيله على الملائكة، وإرسال الرسل إليه وتسخير ما عداه له، وإسباغ النعم عليه ما ظهر منها وما بطن، وغير ذلك مما لا نحيط به علماً، كان كل هذا ليكون الإنسان عبداً لخالقه، لا يعبد سواه ولا يخشى إلا إياه.. حتى تكون عاقبة أمره خيرا في هذه الحياة، ويوم يقوم الناس لرب العالمين.

     وما دامت هذه رسالة الإنسان في الدنيا فإن كل عمل يقوم به ينبغي أن يكون في فلك هذه الرسالة يتوخى تحقيقها بصورة طيبة، لأن الحق سبحانه طيب ولا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً.

     وطوعاً لذلك كانت مهمة التعليم في حياة الإنسان هي أن تقربه من ربه، وأن تنأى به عن مزالق الإثم والعصيان، ولهذا قرر القرآن الكريم أن الذين يخشون الله خشيته هم العلماء: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ فاطر: الآية 28.

رسالة التعليم:

     وإذا كانت النظريات التي ذهب إليها علماء التربية على اختلاف مشاربهم وتوجيهاتهم تكاد تلتقي عند حصر رسالة التعليم في بناء المواطن الصالح، فإن النظرية التربوية الإسلامية تتوخى بناء الإنسان الصالح، وهذا المفهوم الإسلامي هو الذي يحفظ على الإنسان كرامته وعزته، ويجعل منه عضوًا نافعاً للناس قاطبة؛ لأنه ينطلق من مبدأ العبودية لله، وأن الناس كافةً خلق الله، ومتساوون في الحقوق والواجبات، وأن قضايا العنصرية والطائفية والطبقية لا وجود لها في ذلك المفهوم، فهو من ثم مفهوم شامل واسع الدائرة تحيا في ظله البشرية في أمن وتعاون، واستقرار؛ ولكن مفهوم المواطن الصالح مفهوم إقليمي ضيق يحمل ظلالاً من العنصرية، وذلك لأنه يتوخى مصلحةً جزئيةً أو محليةً، وقد تكون على حساب مصالح أخرى لبيئات مختلفة، وآفة الآفات في كل النظريات التربوية أنها لقيامها على هذا المفهوم لم تستطع أن تنقذ الإنسان من الصراعات الدامية التي يعاني منها في كل مكان، والتي تمتص كثيرًا من موارد الخير والرزق، فتدفع بالعديد من الشعوب والأقاليم إلى كوارث المجاعات والأمراض المهلكة.

التعليم والتطوير:

     والسؤال الذي يفرض نفسه بعد هذا، ماهي الفلسفة التعليمية التي يجب أن يكون التطوير خادماً لها ومعيناً على تحقيق أهدافها؟

     إن من أهم خصائص الأمة الإسلامية وهي خير أمةٍ أُخرجت للناس أنها أمة العقيدة التي صلح عليها أمر الدنيا والآخرة، لأنها عقيدة الفطرة الإنسانية التي تقوم على الإيمان بوحدانية الله سبحانه، وكذلك الإيمان بالأخوة والمساواة والعدالة، واحترام آدمية الإنسان لذاته دون نظر إلى جنسيته أو عقيدته..؟

     فهل النظرية التربوية أو التعليمية التي تطبق في العالم الإسلامي الآن تنهض على ذلك الأساس العقائدي، وتعمل على تأصيل قيمه في النفوس، وتوجيه السلوك البشري نحو الالتزام بكل ما يفرضه هذا الأساس المتين؟

     إن هناك معضلةً أو مشكلةً في النظرية التربوية المطبقة في العالم الإسلامي، وهي تلك الثنائية التي مزقت التعليم إلى ما يسمى بالتعليم الديني والتعليم المدني، وهذه الثنائية التي انتقلت عدواها إلى كثير من المجالات والمفاهيم، لم يعرفها هذا العالم إلا بعد أن نكب بالاحتلال الغربي، وفرض عليه ما فرض عليه ما فرض من النظم السياسية والاقتصادية والتربوية، والاجتماعية، فبدأت المفاهيم الإسلامية الصحيحة يعتريها الذبول، وتطغى عليها بعض المفاهيم غير الإسلامية، وضاعف من كل ذلك نشأة أجيال تلقت ثقافتها وتعليمها عبر النظم والقوانين التي فرضها الاستعمار في بلادنا، ومن ثم علت الأصوات التي تنادي بفصل الدين عن الدولة، بل وتهاجم الدين نفسه أحياناً، ظهرت دعاوي العلمانية وغيرها من الإيديولوجيات التي بلبلت الأفكار وجعلت الأمة في أمرٍ مريجٍ بالنسبة لكثير من القضايا المتعلقة بالدين.

     إن التطوير والتجديد أمر ضروري إسلامياً، فالجمود والركود يناقض سنة الله في كونه، والإسلام دين العقل والتفكير والدعوة، وأخذ الحكمة دون نظر إلى مصدرها أو قائلها، ومن ثَمَّ يجب علينا دائماً أن نفكّر في كل قضايانا أو مشكلاتنا تفكيرًا عملياً ناضجاً يراعي تطور الحياة وما يفرضه من تغييرٍ وتجديدٍ حتى لا يتخلف الركب، وحتى نظل في المكانة التي بوأنا الله إياها وهي مكانة الخير والشهادة على غيرنا من الأمم.

     وما دام التطوير ضرورةً، والتعليم يحتل منزلةً خاصةً في مجال بناء الإنسان وإعداده الإعداد الصالح لينهض برسالته في الحياة، فإن هذا التطوير ينبغي أن يكون له منطلقٌ محددٌ وغايةٌ واضحةٌ حتى يكون تطويرًا فاعلاً ومؤثرًا ومحققاً لما يراد منه.

     وهذا المنطلق هو فلسفة النظرية التربوية الإسلامية والتأكيد على أن هذه الفلسفة قوامها توجيه السلوك البشري كله نحو سيادة شرع الله في دنيا الناس، وأن الإنسان في كل تصرفاته محكوم بهذا الشرع حتى يحقق معنى الاستخلاف في الأرض والعبودية الكاملة للذي خلق فسوّىٰ والذي قدّر فهدىٰ.

     قد يقع التغيير في النظرية التربوية في بعض المسائل الإجرائية، أو تعديل وإضافة وحذف في المادة العلمية، ومثل هذا التغيير قد يعد تطويرًا، ولكن الأهم من ذلك أن يكون كل تغيير أو تعديل منبثقاً من فلسفة النظرية ومعيناً على تحقيق رسالتها بصورة أقرب إلى الكمال إن لم تكن كاملةً.

     ولأننا أمة تنهض كل خصائصها على عقيدة الوحدانية، فإن علينا أن نبرز في تطوير سياستنا التربوية خصائص هذه الأمة، وإلا كنا كمن يحرث في البحر، أو ينفق جهده عبثاً، أو يسعى وراء سرابٍ خادعٍ وأملٍ خائبٍ.

     إن كل دول العالم حتى العلمانية منها تحاول أن توجه نظمها التربوية لخدمة الأهداف العليا لها، بل إن من هذه الدول من يجعل الأهداف الدينية هي محور سياستها التربوية كما يحدث الآن من اليهود في فلسطين، ونحن أولى من غيرنا بأن تكون نظمنا التربوية في خدمة عقائدنا الدينية من حيث الأهداف الكلية والمثل العليا والغايات التي تتجاوز هذه الحياة الدنيا إلى تلك الحياة الخالدة الحياة الآخرة.

     وإذا كان هناك من يمتعض أو يضيق صدره إذا جاءت إشارة إلى الدين وأن له الكلمة الأولى في كل النظم والقوانين، فإن هذا الضيق والامتعاض قد يكون مبعثه الجهل بالدين أو الظن بأنه عائق دون التطوير والتقدم، وأن الذين نفضوا أيديهم منه قد سبقونا وغلبونا، وهذا كله باطل من التصور والفهم.. فنحن أمة لا يمكن أن تتقدم وتنهض بغير قيمها الدينية ولا سبيل بحال من الأحوال لأن يحدث لدينا ما حدث لدى غيرنا من الفصل بين الدين والدولة، وما يحدث في العالم الإسلامي كله الآن أوضح برهان على أن البلبلة التي تهيمن على هذا العالم وتفقده وضوح الرؤية وانتهاج الطريق القويم مردها إلى هذا التمزق الثقافي الذي جعل حياتنا بعضها يحمل اسم الدين، وبعضها الآخر لا يقيم للدين وزناً ولا يرعى له حكماً.

     ومرةً أخرى أقول إن التغييير مطلوب ومحمود، ولكنه إذا لم ينطلق من فلسفةٍ تربويةٍ إسلاميةٍ فإنه قد يكون تطويرًا إلى الجمود أو تغييرًا إلى عكس ما تتطلع إليه الآمال.

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، محرم – صفر 1434 هـ = نوفمبر ، ديسمبر 2012م – يناير 2013م ، العدد : 1-2 ، السنة : 37